الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
«{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}» قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها! قال: فرعاه بشطر وسق ثلاثين صاعًا، والوسق ستون صاعًا، فقال: «ليطعم ستين مسكينًا وليراجعك». قال ابن كثير: إسناده جيدّ قوي، وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.تنبيهات:قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية حكم الظهار، وأنه من الكبائر، وأنه خاص بالزوجات، دون الأجنبيات، وأن فيه بالعَود كفارة، وأنه يحرم الوطء قبلها، وأنها مرتبة: العتق، ثم صوم شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينًا، واستدّل، مالك بقوله: {مِنكُمْ} على أن الكافر لا يدخل في الحكم، وبقوله: {مِن نِّسَائِهِمْ} على صحته من الزوجات والسراري، لشمول النساء لهنّ.واستدّل ابن جرير وداود وفرَّقه بقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} على أن العود الموجب للكفارة، أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرر.واستدّل بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار عتق الكافرة.واستدّل بظاهر الآية من لم ير الظهار إلا في التشبيه بظهر الأم خاصّة دون سائر الأعضاء، ودون الاقتصار على قوله: كأمي، وبالأم خاصة دون الجدّات وسائر المحارم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة والأب والابن ونحو ذلك. ومن قال لا حكم لظهار الزوجة من زوجها، لأنه تعالى خص الظهار بالرجل. ومن قال بصحة ظهار العبد لعموم {الَّذِينَ} له. ومن قال بإباحة الاستمتاعات بناء على عدم دخولها في لفظ المماسة. ومن قال يجوز الوطء ونحو ذلك قبل الإطعام إذا كان يكفر به، لأنه لم يذكر فيه {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}وفي الآية ردّ على من أوجب الكفارة بمجرد لفظ الظهار، ولم يعتبر العود. ووجه ما قاله أن جعل العود فعله في الإسلام بعد تحريمه.وفيه رد على من اكتفى بإطعام مسكين يوم واحد، ستين يومًا. انتهى.وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ذلك البيان أو التعليم للأحكام لتصدقّوا بالله ورسوله في قبول شرائعه، والانتهاء عن قول الزور الجاهلي.والمراد بقوله تعالى: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الجاحدون لفرائضه وحدوده التي بيّنها. فالكفر على حقيقته، أو المتعدّون لها، وعنوان الكفر تغليظًا لزجرهم.{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [5]{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في مخالفة حدوده وفرائضه. وأصله من المحادّة، بمعنى المعاداة؛ لأن كلًا من المتعاديين في حدّ غير حد الآخر.{كُبِتُوا} أي: أخزوا {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم الماضية.{وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن جرير: أي: دلالات مفصلات، وعلامات محكمات، تدلّ على حقائق حدود الله {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يعني منكري تلك الآيات وجاحديها.تنبيه:فسّر بعضهم {يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بمعنى يضعون أو يختارون حدودًا غير حدودهما.قال محشّيه: ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء، الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حدّه الشرع، وسموها قانونًا.وقال: وقد صنّف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين، قّدس الله روحه، رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع، إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل. وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل. انتهى كلامه.ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل، فيه نظر؛ لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيّف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير. والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويبطلها وينسخها، فإنه كفر وضلال ولا يقول به، ولا يعول عليه، إلا المارقون الجاحدون وأما غير المنصوص عليه- أعني ما لم يكن قاطعًا في بابه، من آية محكمة، أو خبر متواتر، أو إجماع من الفروع النظرية، والمسائل الاجتهادية المدونة- فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعدّ ضلالًا ولا كفرًا؛ لأنه ليس من مخالفة الشرع في شيء إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله، وأحكم الأمر فيه، وبين بيانًا رفع كل لبس، لا ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد، وإعمال الرأي، فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ، مهما بلغ رائيه من المكانة إذ لا عصمة إلا في نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما تتشابه فروع الفقهاء بمواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتابًا في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية، وذلك لأن مورد الجميع واحد، وهو الرأي والاجتهاد ورعاية المصلحة.ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في هذا المعنى سماه (السياسة الشرعية) وكذا لتلميذه الإمام ابن القيم، وهو أوسع. ولنجم الدين الطوفي أيضًا رسالة في المصالح المرسلة، جمعناها من شرحه للأربعين النووية. وقد أرجع العز بن عبد السلام فروع الفقه في قواعده إلى قاعدتين: اعتبار المصالح ودرء المفاسد.قال القاضي زكريا: وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح.وقال الشاطبيّ في (الموافقات): إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وبأن تكون مصالح على الإطلاق، فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًا وكليًا وعامًّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.وقال نجم الدين الطوفي: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا، والمفاسد نفيًا، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة، لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما، ثم إن أقوى الأدلة النص والإجماع، وهما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها، فبها ونعمت، ولا تنازع؛ إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع، ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار»، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن، بطريق البيان، انتهى. وتتمة كلامه جديرة بالمراجعة، هي وتعليقاتنا عليها، فابحث ولا تكن أسير التقليد، بل ممن ألقى السمع وهو شهيد.{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [6]{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} أي: أحاط الله به علمًا، ولم يذهب عنه شيء {وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: رقيب، يعلمه ولا يغيب عنه. و{يَوْمِ} منصوب بـ: اذكر مضمرًا. وتقدمة الإخبار بسعة علمه سبحانه، تمهيدٌ لما بعده من النهي عن النجوى بالإثم، تحذيرًا وتنفيرًا. وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهيّ عنه، والمحذر منه، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النجوى مصدر، معناها التحدث سرًا، مأخوذة من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض، لأن السر يصان عن الغير، كأن رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، على التشبيه.قال الشهاب: وأقرب منه قول الراغب، لأن المتسارّين يخلوان بنجوة من الأرض. أو هو من النجاة وتخصيص العددين، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين، على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة، وأقله ثلاثة، لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يتوسط بينهما. ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة، كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في الوترية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر. على أنه عمم الحكم بعد ذلك بقوله: {وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ} أي: كالاثنين {وَلَا أَكْثَرَ} أي: كالستة وما فوقها {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} أي: يعلم ما يكون بينهم في أي: مكان حلّوا، لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكانيّ حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أينما كانوا.وقال ابن كثير: حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى. ولا شك في إرادة ذلك.قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.تنبيه:استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الله تعالى في كل مكان، فرد عليهم الإمام ابن حزم في (الفِصل) بأن قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره، مالم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر، أو إجماع، أو ضرورة حس. وقد علمنا أن كل ما كان في مكان، فإنه شاغل لذلك المكان ومالئ له، ومتشكل بشكل المكان، أو المكان متشكل بشكله، ولابد من أحد الأمرين ضرورة، وعلمنا أن ما كان في مكان، فإنه متناه بتناهي مكانه، وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه، وهذه كلها صفات الجسم. فلما صح ما ذكرفيها، منا أن قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} [الواقعة: 85]. وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إنما هو التدبير لذلك، والإحاطة به فقط ضرورة، لانتفاء ما عدا ذلك. وأيضًا فإن قولهم: في كل مكان خطأ، لأنه يلزم، بموجب هذا القول، أن يملأ الأماكن كلها، وأن يكون ما في الأماكن فيه، تعالى الله عن ذلك، وهذا محال. فإن قالوا: هو فيها، بخلاف كون المتمكن في المكان.قيل لهم: هذا لا يعقل، ولا يقوم عليه دليل. انتهى.وقد تقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} كلام في المعية لابن تيمية، فارجع إليه في سورة الحديد.{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى}قال مجاهد: هم اليهود.{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي: بما هو إثم وتعدّ على المؤمنين، وتواصٍ بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعود: وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه، لزيادة تشنيعهم، واستعظام معصيتهم.{وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي: من قولهم: (السام عليك)، أو مما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية، فإن الله تعالى يقول:{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181].{وَيَقولونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقول} أي: من التناجي المذموم، أو من التحريف في التحية، استهزاء وسخرية. أي: هلاّ يعجل عقوبتنا بذلك؟ لو كان محمد رسوله، قال تعالى: {حْسَبُهُمُ} أي: يكفي قائلي ذلك في تعذيبهم {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}ثم نهى تعالى المؤمنين وحذّرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} أي: بطاعة الله، وما يقربكم منه، و{التَّقْوَى} أي: اجتناب ما يؤثم، {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: فيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم.ثم شجع تعالى المؤمنين في قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأنها لا تضرهم ما داموا مثابرين على وصاياه، متكلين عليه، بقوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي: النجوى التي ذمها، فاللام للعهد، أي: المزين لهذه النجوى بالشر، والحامل عليها الشيطان.
|